Rabu, 07 Juli 2010

سنة الله فى الابتلاء عند القران اكريم
للفريو ختما

A. المقدمة : الايضاح اللغوي فى اصطلاح "سنة الله" و "الابتلاء".
ذكر القران "السنة" فى ستة عشر مواضع, منها ما تضاف الى "الاولين" اربع عشرة مرة, و منها ما تضاف الى الضامر المتكلم مع الغير (نا) يرجع معناه الى الله, والى الموصول (من) يرجع معناه الى رسله الذين ارسلوا قبل محمد, فى كل مرة وحدة. واثنتان منها مذكورة بلفظ الجمع (سنن), و بقيات ستة عشر مذكورة مضافة الى لفظ الجلالة .
وقال الراغب الاصفهانى فى المفرادات ان معنى هذا اللفظ يدل على "الوجه" اي "الطريقة". فاذا سنة النبى هو سنته التى كان يتحراها, قولا كان او فعلا او تقريرا . واذا اضيفت الى لفظ الجلالة, فاما بمعنى طريقة حكمته واما بمعنى طريقة طاعته, كما قال " {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} ، {ولن تجد لسنة الله تحويلا }. ويدل هذه الايات بان الغرض المقصود من فروع الشرائع لا يختلف ولا يبتدل ولو اختلفت صورها. وقد قيل بان السنة هي سبيل الحياة حسنة كانت ام سيئة التى يسلكها الانسان واقتدواها الناس واتخذوها امتثالا و اعتبارا. كما قال ابن منظور فى لسان العرب . ويدل الى هذه المعنى قوله صلى الله عليه وسلم "من سَنَّ سُنَّةً حَسَنةً فله أَجْرُها وأَجْرُ من عَمِلَ بها ومن سَنَّ سُنَّةً سيّئَةً....."
واما تخصيص لفظ السنة بالجلالة فيدل على معان. منها حق من حقوقه تعالى. كما قال ﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ . وقال ابن جرير فى تفسير هذه الاية.... لم يكن الله تعالى ليؤثم نبيه فيما أحل له مثال فعله بمن قبله من الرسل الذين مضوا قبله في أنه لم يؤثمهم بما أحل لهم، لم يكن لنبيه أن يخشى الناس فيما أمره به أو أحله له....فكانه قال فعلنا ذالك حقا منا. وظهير الاية يدل على ان تحليل تزويج امراة الولد المتبنى هو حق من الله تعالى .
ومنها حكم من احكام الله. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ اي رد الايمان من الكافرين يوم جاء العذاب هو حكم من احكام الله كما قال ابن عاشور .
ومنها عادة مستمرة من افعال الله, كما قال ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ اي ان جميع ما يفعل الله بالمنافقين المكذبين من تسلطهم و اخراجهم وتطريدهم وتقتيلهم هو سنة جارية وعادة مستمرة كما قاله الرازي . ويدل ايضا على هذا المعنى قوله تعالى ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ اي سنته جارية وعادتة مستمرة من اهلاك الذين يكذبون الرسول وتعذيبهم كما يفعله بالاولين. وقال ابن عاشور فى التحرير والتنوير, اما قوله تعالى سورة الفتح ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ فمعناه جعل الله تولية المؤمنين الكافرين عادة له بنصر المؤمنين اذا كانت نية المؤمنين نصر دين الله تعالى . و انما نقصد هذا المعنى الاخر فى هذا المبحث.
واماالابتلاء فمن بلي يبلى بلية ابتلاء, ومعناه الفنى والذهاب كما ورد فى القران ﴿ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾ اي ملكت ملكا لا ينقضي فيبلى ويفنى, والدنيا دارالابتلاء فلا شك لاحد ان يؤتيه الله بالبلاء فى هذه الحياة الدنيا, وذالك سنة الله التى لا يبتدل ولا يتحول. ومن لا يمكن ان يحمله فلا يصير وجوده كائنا فى الدنيا. او كان معناه ان الابتلاء لم يكن ثابتا بل قد يصيبه بلاء فيذهب ثم يصيب بلاء اخر حتى يلقي الله كما ورد فى الحديث ﴿ مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ ﴾
فقال الراغب هوما فى معناه ان هذا اللفظ يدل على معنين, احدهما الغم, وثانيهما التكليف. سمي الغم بلاء من حيث انه يبلى الجسم كقوله تعالى ﴿ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾ وقوله ﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف.... ﴾ واما التكليف فسمي بلاء من ثلاثة اوجه.
- أحدها: أن التكاليف كلها مشقة على الأبدان، فصارت من هذا الوجه بلاء.
- والثاني: أنها اختبارات، ولهذا قال الله عز وجل: {ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} .
- والثالث: أن اختبار الله تعالى للعباد تارة باليسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعا بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر. فاما الصبر فلقوله تعالى ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ . ومعنى هذه الاية ان ما يبتلى به الله سبحانه وتعالى من كل ما يامر به من التكالف محنة تقتضي صبر المؤمنين لينالوا توفية الاجور . واما الشكر فيدل قوله تعالى فى سورة القمر ﴿ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ﴾ فيتعلق نعمة تنجية ال لوط بشكرهم على انهما مقتضيان ومتلازمان.
فسننه عز وجل عادية وجارية في كل جانب حياة الانسان, وسنة الله فى الابتلاء جانب من جوانبها. فمن هذه النكتة نجد المسائل المهمة المتعلقة بالمبحث الذى نريد ان نتخذ اجوابها من خلال القران الكريم. الاولى, ما حقيقة الابتلاء عند القران, وما الفرق بينه وبين ما يرادفه كالفتنة والعذاب؟ .لان كلا من الثلاثة يجمع معنى واحدا وهو غم وكربة. والثانية, كيف جارت العادة فى الابتلاء من حيث حكمة مجيئه و انواعه ودرجته؟ والثالثة, ما جزاؤه وما عقابه ؟ والله المستعان.

B. حقيقة الابتلاء فى القران الكريم
فاعلم ان الله جل شانه انعم نعمة وانزل نقمة على الانسان ابتلاء ليختبرهم, فيعرف من تلك النعمة الشاكرون فيرضيهم ثم يزيد نعمته عليهم, والكافرون فيغضبهم ثم يعذبهم. ومن وجه النقمة فيعرف الصابرون فيرضيهم ثم يوفى اجورهم من الكافرين فيغبضهم ثم اعد لهم عذابا اليما. فقد مثل الله مقتضية اختبار النعمة للشكر بقول سليمان اذ جائه عالم الكتاب ليجيب سؤاله ان يؤتيه عرش بلقيش فى سورة النمل ﴿ لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ . وكتب الله من جهة النقمة استجاب ثواب المؤمنين بالصبر على القتال فى قوله تعالى ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾
وذكر القران الكريم ان ابتالائه تعالى عام بالحسنات والسيئات. وتشتمل الحسنات على النعم و الخصب والعافية. وتشتمل السيئات على الجدب والشدائد. وكل من الابتلاء يبعث الى الطاعة, اما لاجل الترغيب كما ينشأ من النعم, واما لاجل الترغيب والتخويف عن غضب الله كما في النقمة . ويتخلص الله على هذين النوعين الى كل فرقة من الامم صالحا كان ام لا. ولا يفرق في الامر فرقة دون فرقة. فقد مثل الله تعالى راحة الجنة بابتلاء الحسنات, فاذا تنبه الانسان على كثرة نعم الله التى لم تعد, وجوده, وكرمه, فيشكره ويؤمن به ولا يشرك به شيئا ويتحرز نفسه عن شدائد يوم الجزاء فيرغب فيه ويسارع بكل الاعمال الصالحة وعد الله له راحةالزيادة فى العاجلة وراحةالجنة الحقيقة فى الاجلة. ومثل رهبة النار بابتلاء السيات, فاذا تذكر الانسان على الم عقاب الله ثم يصبر به ويرجو رحمته وترهب ان يعصيه ويجتهد ليجتنب جميع ما نهى عنه اوعده الله النجاة من رهبة النار وشدائدها. وجميع ما ذكر فى كل واحد من الفرقتين ان لله تعالى قصدا مقنعا وحكما عميقا, وهو - كما قطعه القران - ليرجعوا الى الحق, ان كانوا صالحين كاملين فيصعدون من درجتهم السفلى الى درجتهم العليا , وان كانوا صالحين غير كاملين فينتبهون من الغفلة فيزدادون بصلاحهم صلاحا كاملا, واما غير الصالحين فيتوبون من معاصيهم ويرجعون الى سبيل الحق ويتبدلون سيئات اعمالهم السابقة باعمالهم الصالحة. وهذا معنى قوله تعالى ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ .
ومن هذه النكت يفهم ان ابتلائه تعالى يتدرج بتدرج صلاح العبد. وحينئذ ينسب الاختبار بدرجة تقواهم تارة, وبدرجة قربتهم لله تارة اخرى. اما ما يصيب النبين والصلحين الكاملين فهو اختبار امتحان. واما ما يصيب الصالحين الغافلين فاختبار فتنة, وذان الاثنان يصدران من حبه تعالى لعبده. فاختبر الله النبيين والصالحين الكاملين حبا لهم ليتصعدوا بها درجة عنده. وهذا الحب هو اعظم الحب لان عظم الجزاء مع عظم البلاء, فبلاء الانبياء هو اعظم البلاء كما قال رسول الله فى حديثه ﴿ إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ ...﴾ واذا غفل الصالحون و اعرضوا عن طريقة الحق ونسوا الهدى فاختبرهم ببلاء حبا لهم ليتوبوا اليه ويقسطوا الطريقة ويذكروا الهدى. وهذا الحب هو رحمته تعالى لعبده التى يريد به الخير, وبذالك عجل العقوبة فى الدنيا تكفيرا لذنوبهم كي لا يؤاخذوا بها فى الاخرة كما جاء فى الحديث ﴿ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا...﴾ . وكما تكون الامتحان عاما بالخير والشر, فكذالك الفتنة, ويدل قوله تعالى ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ...﴾ .
وقد يختبر الله تعالى قوما عصوا امره وخالفوا ذكره وهم قوم غير صالحين, تارة بالحسنات وتارة بالسيئات. ولا يتعلق الحسنات الا لانتظار عقوبتهم فى الاخرة, كما قال تعالى فى سورة البقرة ﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ . ويئوده الحديث ﴿ ... وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ . واذا اختبرهم بالسيئات فتكون حينئذ عذابا لهم, ويدل ذالك قوله تعالى ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ﴾
و كل ما يكون على الارض من حياوانها ونباتها ومعادنها وما يخرج منها من منافع ومصالح كلها زينة التى جعلها الله لقصد اختبار العباد. واختباره هنا اختبار بالحسنات, وما قصد منه الا ليختبرهم فى اعمالهم ايهم يعمل عملا صالحا وينشر الخيرات فى وجه الارض ممن يعمل عملا مفسدا, ويميز الذين اطاعوا شهواتهم ويغرقون فى الاهواء الدنية من الذين خالفوا شهواتهم ونهوا انفسهم عن الاهواء الدنية واختاروا باتباع سبيل الهدى. ويدل على ذالك المعنى قوله تعالى ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ وكما كانت حياة العباد من حيث زينتها اختبارا فكذالك الموت كان اختبارا لهم من جانب السيئات كما قال تعالى ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...﴾ ولا يختصر اختبارالسيئات بالموت فقط, ولكن جميع ما قطع الله تعالى من جانب سيئات حياة العباد من خوف ونقص الامول والثمرات كلها اختبار. ويدل قوله تعالى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ...﴾ ونقص الانفس هو بمعنى الموت كما ذكر الله تعالى فى سورة الملك المتقدمة.
فالحاصل ان حقيقة الابتلاء فى القران الكريم ينحصر على معنين, اولهما ابتلائه تعالى المتعلق بخلافة الانسان فى الارض. فانما يطلب المستخلف جيد خلافة المستخلف منه من حيث انه يستوفي بجميع ما احمله, وجينئذ يطلب الله تعالى جيد خلافة الانسان من حيث انهم يستوفون بجميع ما احملهم من نشر الخيرات وتعمير الارض. ولا يجاد ذالك المقاصد العليا الا ان يشرعهم الله بالابتلاء والاختبار. فمن ثم يعرف المفسدون من المصلحين والمهلكون من المعمرين والكافرون بنعمته من الشاكرين والصابرين الذين ينالون الصلوات من ربهم والفوز بالجنة. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ...﴾ وثانيهما التكليف, وهذا التكليف انما يؤثر لمسابقتهم على ان يسارعوا الى فعل الخيرات التى تجلب عمارة الارض. ولا يجاد ذالك كله الا بابتلاء الانسان في كل ما اتاهم الله من حسنات وسيئات. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى ﴿.. لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ .

C. انواع الابتلاء ومقاصده فى القران الكريم.
ثم اعلم على ان ابتلائه تعلى على قسمين, حسني و سيئي, وكل منهما يتمثل على انواع كثيرة. واما الحسني ولا يكون الا من باب نعمه الكثيرة, واول الحسني وافضله هو القران التنزيل الحكيم الذى انعمه الله على عباده هاديا الى سبيل الحق والرشاد, ومخرجهم من الظلمات الى النور وسراجا منيرا. قال القاسمى وبهذا التنزيل الحكيم اختبر الله العباد هل يشكرون نعمته فيتبعون طريقه ويهتدون سبيله فيحيوا حياة طيبة, ام يكفرون النعمة ويكذبون الحق فيضلون السبيل فلا تكون عاقبتهم الا كعاقبة اهل الجنة الذي احرقت بستانهم بدون الحصاد كما اوضحه القران ﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾ يعرف من هذا التمثيل المقنع ان وجه التشبيه بين الذين ابتلى الله بهذا التنزيل الحكيم ويكذبونه وبين اهل البستان الذين لا يستثنون شيأ هو الخسران من الحاصل. فالتنزيل الحكيم هو البستان, وهدايته العليا هي ثمرته, فان كذب العبد الحق و يخالف الهدى ويترك الرشد فهيهات ثم هيهات عن الحاصل. وكذالك اهل البستان الذين لا يستثنون شيأ من بستانهم خسروا خسرانا عن الحصاد والصرم. ويؤيد هذا المعنى قوله ص م ﴿... وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ... ﴾
و لا يريد الله تعالى من ابتلائه العباد بالقران الكريم الا ليمتاز الذين أمنوا به ثم اتبعوا الهدى فيهديهم الله الى اقوم الطريق ويبشرهم بكبيرة الاجور الوافرة من سعادة عيش العاجل والاجل, من الذين يكذبون الحق و لا يؤمنون بالاخرة فيضل طريقهم ويعتد لهم عذابا اليما. ويدله قوله تعالى ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ وليتفرقوا فراقا, فرقة وجلت قلوبهم وازداد ايمانهم بذكرهم القران, كما قال تعالى ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا...﴾ وفرقة انفروا بذكر القران وتولوا عنه, كما قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴾ ويدل على هذا التفسير اية اخرى ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ﴾.
ومن باب ابتلائه تعالى الحسني هو التعدد الامتية. فان الله تعالى خلق الانسان بالاستعداد القابل على الزيادة والتطور بخلاف الحيوان, فمن اب واحد يزداد اقواما كثيرا يختلف الوانا وشعوبا ولغة وغير ذالك من الاختلاف الجسدية, وكل ذالك من التعدد الجسدية من حيث الزيادة. ثم تطورت الاقوام بحسب استعدادهم النظرية المنسوبة الى تربيب النوامس وسباب الاهتداء اوالضلال المعبر عنه بالتوفيق او الخذلان, والميلل اوالانصراف, والعزم اوالمتكابرة, وهذا يسمى بتعدد النظرية. وكل من النوعين هما نعمة وابتلاء الذان اتاهما الله تعالى على الانسان. والحكمة المقصودة من هذا الابتلاء التعددية لان يستبقوا الخيرات ويسارعوا ويبادروا فيها حتى يظهر اثر توفيقه من التفاضل بين افراد نوع الانسان فيبلغ بعضها درجات عالية, ومن اختلاف الشرائع التى اتاهم الله فيظهر مقدارُ عملهم بها فيحصل الجزاء بمقدار العمل كما قاله ابن عاشور فى التحرير والتنوير . ويدل على ذالك التفسير قوله تعالى ﴿ ... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ ويؤيده قوله تعالى سورة البقرة ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ...﴾ .
وهذا الاختلاف التعددية والدرجتية ايضا يتعلق بتكليف الانسان فى الخلافة, فمن يصلح بهذا التكليف فيبلغ بعضهم ويفضلهم فى الاعمال الخيرات النافعة, رفعهم الله درجاتهم فوق بعض. وهذا المراد من قوله تعالى ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ والمقطع الاخير من قوله تعالى ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ﴾ اي لمن عصاه وخالف رسله ولا يبالون بنعمته التعددية ولا يعتبرون بحكمة علمه الذى ظهر فى الحديثة , وقوله تعالى ﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ اي لمن والاه واتبع رسله ويعتبر بانكشاف علمه الواسع الظاهر فى الحديثة .وقال شيخ محمد عبده فى تفسيره ان الاجر والعقاب من ابتلائه تعالى جاران على سننه فى نظام خلقه تعالى وعلى شريعة الدين, فالاجر العجيلي يتعلق باتباع سنن نظام الخلق,كما ان الاجر الاجلي يتعلق باتباع شريعة الدين. والعقاب العجلي يتعلق بالخلاف والاعتداء بسنن نظم الخلق, كما ان العقاب الاجلي يتعلق بالخلاف والانصراف من الشريعة الدينية .
ومن انواع ابتلائه الحسني الفتح والغلبة على العدو, كما ذكر فى قوله تعالى ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ والمقصود من هذا النوع النصر والاعزاز لعباده المؤمنين والاهانة لعباده الكافرين, لان الله تعالى هو سميع لدعائهم وعليم باحوالهم. وجارت السنة فى هذا الابتلاء ان الله كتب تغليب المؤمنين على الكافرين ان كان ايمانهم صادقا. قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾
ومن انواع ابتلائه الحسني نعمة ظاهرة مذكورة فى قوله تعالى ﴿ وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ﴾ اي كل اياتى الى بنى اسرائل من ظلال الغمام ونزول المن والسلوى وانفجار الماء, وتفريق البحر, نعمة ظاهرة التى اردت ان ابتلي بها بنى اسرائل, هل أمنوا بالايات فزدت نعمة عليهم, ام كفروا بالايات ونسوا الحكمة فانزل عليهم عقابا وعذابا. ويشتمله ايضا قوله تعالى ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ فاختبرالله تعالى بنى اسرائل بشراع الحيتان فى اليوم الذي قد نهى الله الاشتغال فيه بغيرالعبادة, فيعرف منه من يؤثرون الله فلا يبالون بالمتاع الغار الظاهر ممن يعتدون حدالله فيمتعون ويتركون عبادته. ولا يختصر هذا الابتلاء ببنى اسرائل المشهرون بالانصراف والاعتداء, بل قد يكون على المؤمنين, كما ذكر فى قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ والحكمة المقصود بهذا الابتلاء ظاهرة مذكورة وهو ﴿ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ . لان تخصيص العبادة فى الايام المعظمة والحُترمة هو حد من حدود الله تعالى فلا يخلطه احد بانواع الشغالة بغير العبادة, والاعتداء فى ذالك كفر بنعمته تعالى. فبذالك قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ فيوم السبت يوم معظم لامة موسى عليه سلام ( بني اسرائل ) ويوما الحرمة والجمعة معظما الايام لامة محمد صلى الله عليه وسلم. ويشمل ايضا فى هذا النوع ابتلائه جنود طلوت بنهر فى قوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾
واما السيئي فانواع, منها الاختبارة الجسدية. وهي الشعور الخوفية من العدو والارجاف به, والشعور النقصية من ذهاب الاموال وفقد الزاد والعيال بموت بعضهم او كلهم. وذالك الشعور شعور الخلقية الفطرتية التى يبتلى الله العباد بها, فيعرف منه الذين صبروا ورجعوا امورهم الى الله ممن جزعوا بمحن الله تعالى ولم يرض بقدرته, وانما جعل الارض دار المحن فلا يقطع الانسان عن المحن فيها. فبشر الله تعالى الذين أمنوا وصبروا بالبركة والمغفرة والرحمة العظيمة. قال الله تعالى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ الى قوله تعالى ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ قال الرازي فى تفسيره وأما الحكمة في تقديم تعريف هذا الإبتلاء ففيها وجوه . أحدها : لتطمئن أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت ، فيكون ذلك أبعد لهم عن الجزع ، وأسهل عليهم بعد الورود . وثانيها : أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن ، اشتد خوفهم ، فيصير ذلك الخوف تعجلة القبول للابتلاء ، فيستحقون به مزيد الثواب . وثالثها : أن الكفار إذا شاهدوا محمداً وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع ، يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته ، فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمل في دلائله ، ومن المعلوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره ، ثم رأوه مع ذلك مصراً على ذلك المذهب كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة عليه في ذلك المذهب . ورابعها : أنه تعالى أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه ، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه فكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً . وخامسها : أن من المنافقين من أظهر متابعة الرسول طمعاً منه في المال وسعة الرزق فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق عن الموافق لأن المنافق إذا سمع ذلك نفر منه وترك دينه فكان في هذا الإختبار هذه الفائدة . وسادسها : أن إخلاص الإنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله تعالى أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه ، فكانت الحكمة في هذا الإبتلاء ذلك .
ومن ابتلائه السيئي الجهاد. قال الله تعالى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ والمقصود من الابتلاء ظاهر مذكور فى الاية المتقدمة.
ومن ابتلائه السيئي التغليب بالعدو قال تعالى ﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ الى قوله تعالى ﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾
ومن ابتلائه السيئي الموت. قال الله تعالى ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ وقال تعالى فى مقصود هذا الابتلاء ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ وقال فى اية اخرى ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ اي المقصود فى ابتلاء الحياة هو التكثير بالعمل الصالح وبالموت هو توفية الاجور.

D. درجة الابتلاء فى القران الكريم
واعلى الدرجة فى الابتلاء ابتلاء الانبياء كما ورد فى الحديث القديم. جاء القران بخبر ابتلائه على ابراهيم قال تعالى في سورة البقرة ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ... ﴾ اي ابتلاه بشرائع فيفيه. وجاء القران فى ابتلاء ادم بالشجرة, قال الله تعالى ﴿ وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ وابتلى ايوب بالضر, فقال تعالى ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ وجاء فى ابتلاء يوسوف بفتنة النساء والسجن ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ وفى يونوس بالتقام الحوت, ﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ وفى سليان بالملك ﴿ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ وفى ابتلاء رسول لله محمد ص م عند اخرجه الذين كفروا واحصروه مع ثاني اثنين فى الغار ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا...﴾ واشتمل على ذالك البلاء اشد انواع الاذى فى دعوته ص م. وقد جاء فى الحديث ﴿ بينما النبى يصلى فى حجر الكعبة اذا اقبل عقبة بن ابى معيط فوضع ثوبهفى عنق رسول الله فخنقه خنقا شديدا فاقبل ابو بكر حتى اخذ بمنكبه ودفعه عن النبى ﴾ . ويبتلى الله الانبياء كلهم بالمشار الا فى ادم وسليمان, واذا قيل ما السر فى ذالك؟ فاعلم ان الله تعالى استخلف من نفسه بادم ودود فى الارض, كما قال تعالى فى ادم ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ واما خلافة سليمان فيرثه من ابيه دود ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ وقال فى دود ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ﴾ والاستواء بين الخليفتين انه تعالى يؤتيهما بالعلم والملك, وهو الابتلاء الحسني. وملك ادم هو مسكن الجنة من غير الشجرة, فظن ان المسكن سيبلى, فوسوس عليه شيطان كما قال ﴿ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾ وانما يبتلي خلائفه تعالى بالحسنات من جنب السيات كما قال﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ ﴾
ثم بعد الانبياء ابتلاء المؤمنين الذين يشترون بانفسهم ابتغاء مرضات الله فهلكهم البلاء والفتن فيعرف منه صدق ايمانهم. كما ورد فى قصة الاحود ﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ واما الحكمة فى هذا الابتلاء فقال ابن عاشور ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره ، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء ، ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره ، ولأنّ في الابتلاء أسراراً عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه . واشتمل هذا النوع ابتلاء اصحاب الكهف حين يفرون من ظالم الملك كما اوضحه القران ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ .
ثم بعده ابتلاء عامة الانسان كما ورد فى القران ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ قال القاسمى فى تفسير هذه الاية اي ابتلى الله عامة الانسان بالغنى واليسر فيظنون ان يفضلهم الله ويكرمهم بذالك الغنى واليسر, وابتلاهم الله بالتضيق والتقتير وبقلة المال فيظونون ان يذلهم بالفقر كما يقصر عامة الانسان فى نظر على حالين. والحكمة فانه انما ابتلاهم الله بالغنى ليقوموا بواجبه ويعرفوا حق الله فيه, وبالفقر ليظهروا بمظهر العفاف ويتخلق بخلق الصبر على الكفاف. وفى كل ابتلاء وامتحان ليميز الله الخبيث من الطييب, قال الله تعالى ﴿...حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...﴾ ونظير الاية, اية ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ واية ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ واية ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًاوَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ .
وادنى درجة الابتلاء عند القران ابتلاء الكافرين العصين المعتدين, وهو ابتلاء عذاب وعقاب, لانهم شرالبرية كما ورد فى القران ﴿ أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾ . وما يبتليهم الله تعالى الا لعذابهم وعقابهم لما يفعلون من اعتداء الله ورسله وقتلهم الانبياء بغير الحق ويصدون المؤمنين عن طريق الحق. ويشتمل هذا النوع بالعذاب العجلي كما يمثله القران حين يحدث عن امر قوم نوح الذين كذبوا رسولهم وصدوا المؤمنين عن طريق الحق بالاغراق, قال الله تعالى ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ قال الزمخسري أي مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد . وقال فى حال قوم العاد فى سورة المؤمنون ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ . وبالعذاب الاجلي جاء فى يوم المحشر كما قال ﴿ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ .

E. الخاتمة.
وما يتخلص من هذا المبحث القصير ان الله تعالى خلق الدنيا دار الابتلاء والانسان موضوع الابتلاء. واسعده باسعاد السمع والبصر, والقلب والعقل, والرشد والهداية, وبذالك الاسعاد يفهم الانسان ويميز الحق عن الباطل والاستقامة عن العوج, والرشد عن الضلال. والابتلائه تعالى للعباد هو اختبارهم بعقولهم وذوقهم احوالهم ومعرفتهم بتصرف ذالك الاسعاد كله كما يبتلى الولي اليتامى ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ . ثم بعد ذالك كتب عليهم سبيلين, سبيل الشكر وسبيل الكفر. وهذا المراد بقوله تعالى ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورً﴾ وقال تعالى ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ ومن كل سبيل جرت السنة كما جرت سننه فى نوامس الكون. وبهذا الابتلاء يتفرق الانسان على فرقتين, الشاكرين والصابرين, ثم الكافرين والجازعين.
وما يعتاد من سننه تعالى فى الابتلاء انما يبتلى الانسان بحسب ايمانهم, ويقتضى الايمان على معنين, الصبر والشكر كما ورد فى الحديث ﴿ الايمان نصفان نصف لصبر ونصف لشكر ﴾. والانبياء عليهم السلام هم اعلى الانسان ايمانا, ولا شك فى شكرهم نعمة ربهم, فابتلاهم الله باكثر المشارات والمضارات لقصد طلب صبرهم. وهذا البلاء اشد البلاء كما قال رسول الله ص م ﴿ اشد الناس بلاء الانبياء ثم الامثل فامثل﴾ . واما ابتلاء الؤمنين فبطلب صدق ايمانهم, و علي عامة الناس فليميز شاكريهم عن كافريهم, صابريهم عن جازعيهم, وعلى المعتدين العصين فبقصد عقاب وعذاب ليكون بيان للناس وهدى واعتبار للذين بعدهم وموعظة للمتقين.
ويعتاد السنن فى نوع الابتلاء حسنيا كان ام سيئيا. ونقل القاسمي عن القاشانى الانسان يجب ان يكون فى مقام الشكر او الصبر بحكم الايمان. لان الله تعالى اما اما يبتليه بالنعم والرخاء فعليه ان يشكره باستعمال نعمته فيما ينبغي من اكرام اليتيم, واطعام المسكين وسائر مراضيه من صالح الجمعي, ولا يكفر نعمته بالبطر والافتخار والاتراف وحب المال ومنع المستحقين. او اما بالفقر وضيق الرزق فيجب عليه ان يصبر ولا يجزع, فربما كان ذالك اكراما له بان لا يشغله بالنعمة عن المنعم, ويجعل ذالك وسيلة له فى التوجه الى الحق والسلوك فى طريقه لعدم التعلق, كما ان الابتلاء بالنعم والرخاء ربما كان استدراجا منه انتهى . واما النعم فيبتلى به المؤمنين فيكون اختبارة, ويبتلى به الكافرين فيكون استدراجا وانتظارا الى العذاب المؤجلة. واما النقم فيبتلى به المؤمنين اما ان يكون تكريما, او تذكيرا وتكفيرا للذنوب. واذا اصاب المؤمن بلاء فذكر بعماصيهم ثم تاب فحينئذ كان شاكرا, واذا كتمه ثم جزع وحينئذ كان كافرا. قال رسول الله فى حديثه ﴿ مَنْ أُبْلِيَ بَلَاءً فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ ﴾ , ويبتلى به الكافرين فكان حينئذ عذابا وعقابا معجلا لهم.
ومن عادت سننه فى الابتلاء انه تعالى لا يبتلى العباد فوق طاقته كما قال ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ويويده حديث ابى ابن سعيد ﴿ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ﴾ . فينبغى على العباد ان يذكر الله ويشكره فى حالة الراحة كما قال ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ ويسترجعوا ويستعنوا بالصبر والصلاة حين اصابهم النقم كما قال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ . وينبغى على العباد ان يظنوا بالله خير الظنون عسى ان يكون الابتلاء تفضيلا لهم ويدعوا كما دعا رسول الله ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا ﴾ . وجري على سننه فى الابتلاء السخت على من يسخط والرضا على من يرضا كما قال رسول الله ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ ﴾ والله اعلم بالصواب.

Tidak ada komentar:

Posting Komentar